مرحبا بك في موقع رؤيا الإخباري لتطلع على آخر الأحداث والمستجدات في الأردن والعالم

تعبيرية

1
Image 1 from gallery

الولاء الوظيفي: نعمة الاستقرار أم نقمة الاستغلال؟ ميزان دقيق في سوق العمل الحديث

نشر :  
منذ 11 ساعة|
  • الموظف الذي يقضي عقودا في شركة واحدة يكرم وينظر إليه كنموذج يحتذى به

لطالما اعتبر "الولاء الوظيفي" الفضيلة الأسمى في عالم الأعمال التقليدي؛ فهو رمز للاستقرار، ومؤشر على الوفاء، وضمانة للاستمرارية.

كان الموظف الذي يقضي عقودا في شركة واحدة يكرم وينظر إليه كنموذج يحتذى به.

لكن في ظل سوق العمل الحديث، الذي يتسم بالسرعة، والتغير المستمر، واقتصاد "المشاريع المؤقتة" (Gig Economy)، بدأ هذا المفهوم يواجه تساؤلات جذرية.

هل الولاء في العمل لا يزال "نعمة" لا تقدر بثمن؟ أم أنه تحول إلى "نقمة" تغذي الركود، وتفتح الباب للاستغلال، وتعيق الابتكار؟ الإجابة، كالعادة، تكمن في المنطقة الرمادية بين هذين النقيضين.

الولاء كـ "نعمة": بناء الثقة والاستقرار

في وجهه الإيجابي، يمثل الولاء الوظيفي حجر الزاوية لبيئة عمل صحية ومستقرة. عندما يشعر الموظف بالولاء تجاه مؤسسته، فإنه يقدم أفضل ما لديه، ليس فقط لأنه يتقاضى أجرا، بل لأنه يشعر بالانتماء الحقيقي والمسؤولية تجاه نجاح الكيان الذي هو جزء منه.

بالنسبة للموظف، يوفر الولاء شعورا عميقا بـ الأمان الوظيفي. في عالم اقتصادي متقلب، يعد الاستقرار نعمة حقيقية.

هذا الأمان يحرر الموظف من القلق المستمر بشأن مستقبله، ويسمح له بالتركيز على إتقان مهامه والتطور داخل المؤسسة.

الولاء يترجم أيضا إلى "ثقة" من قبل الإدارة، مما يعني غالبا تفويضا أكبر، ومسؤوليات أهم، وأولوية في برامج التدريب والتطوير، مما يبني مسارا وظيفيا متينا.

بالنسبة لصاحب العمل، الولاء هو استثمار مربح للغاية. الموظفون الأوفياء يعنيون معدل دوران أقل (Lower Turnover)، وهو ما يوفر على الشركة مبالغ طائلة كانت تنفق على عمليات التوظيف والتدريب المكلفة للموظفين الجدد.

كما أن الموظف القديم يمتلك "ذاكرة مؤسسية" لا تقدر بثمن؛ فهو يفهم ثقافة الشركة، وتفاصيل العمل الدقيقة، وشبكة العلاقات الداخلية، مما يرفع مستوى الإنتاجية والكفاءة.

الوجه المظلم: متى يتحول الولاء إلى "نقمة"؟

المشكلة لا تكمن في "الولاء" بحد ذاته، بل في "الولاء الأعمى" (Blind Loyalty). هنا، يتحول الولاء من فضيلة مهنية إلى قيد يكبل صاحبه، ونقمة تستنزف طاقته.

1. الركود المهني (Career Stagnation): الخطر الأكبر للولاء المفرط هو الوقوع في "منطقة الراحة".

الموظف الذي يخشى التغيير، ويرفض الفرص الخارجية "وفاء" لشركته، قد يجد نفسه بعد عشر سنوات بنفس المسمى الوظيفي، وبمهارات أصبحت قديمة.

سوق العمل لا يرحم؛ الولاء لشركة واحدة قد يعني "خيانة" للمسار المهني الشخصي.

الموظف، خوفا من "خيانة" الشركة، قد يتخلى عن طموحه، ويقبل براتب أقل من قيمته السوقية، وتضمر مهاراته تدريجيا.

2. الاستغلال وسوء التقدير (Exploitation): عندما تضمن الإدارة ولاء الموظف بشكل مطلق، قد تبدأ في اعتباره "أمرا مسلما به" (Taken for Granted).

يصبح هذا الموظف هو الشخص الذي يطلب منه دائما البقاء لساعات إضافية (دون مقابل)، وتحمل أعباء عمل إضافية، وتغطية أخطاء الآخرين، كل ذلك تحت ستار "الوفاء" و"روح الفريق".

يصبح ولاؤه أداة لابتزازه عاطفيا، ويتحمل ما لا يطيق باسم "حبه للمكان"، بينما تمنح الترقيات والعلاوات للموظفين الجدد "الأغلى صوتا" أو الأكثر حداثة.

3. التنازل الأخلاقي (Ethical Compromise): وهذا هو الجانب الأكثر خطورة.

الولاء الأعمى قد يتحول من ولاء "للمؤسسة" إلى ولاء "للأشخاص" داخلها (كالمدير المباشر).

هذا قد يدفع الموظف إلى التغاضي عن ممارسات خاطئة، أو التستر على فساد إداري أو مالي، أو المشاركة في "التفكير القطيعي" (Groupthink) الذي يمنع النقد البناء.

يصبح الولاء هنا عائقا أمام الشفافية والمساءلة، ويتحول إلى "نقمة" حقيقية تدمر المؤسسة من الداخل.


إعادة تعريف الولاء: من "البقاء" إلى "الشراكة"

لقد مات النموذج القديم للتوظيف مدى الحياة. سوق العمل الحديث لا يطلب "ولاء أبديا"، بل يطلب "التزاما واحترافية" خلال فترة التعاقد.

المفهوم الحديث للولاء هو "الولاء المتبادل" (Mutual Loyalty).

لم يعد الولاء شارعا ذا اتجاه واحد (من الموظف إلى الشركة). لكي يحصل صاحب العمل على ولاء الموظف، يجب عليه أن يقدم ولاء مقابلا.

هذا الولاء يتمثل في:

أجر عادل ومنافس.

الاستثمار في تطوير الموظف وتحديث مهاراته.

بيئة عمل آمنة ومحترمة (نفسيا وجسديا).

احترام التوازن بين الحياة والعمل.

الشفافية والعدالة في الفرص والترقيات.

إذا فشلت الشركة في تقديم هذه الأساسيات، فإنها تكسر عقد الولاء أولا، ويصبح من حق الموظف (بل من واجبه) البحث عن فرصة أفضل.

الولاء الأول يجب أن يكون للذات؛ الولاء للمبادئ الشخصية، وللمسار المهني، وللصحة النفسية.

الموظف الأكثر قيمة اليوم ليس من يبقى أطول، بل من يحدث الأثر الأكبر خلال فترة وجوده.

يمكنك أن تكون موظفا "وفيا" ومخلصا لعامين، تقدم فيهما كل طاقتك وإبداعك، وتغادر كشريك نجاح.

ويمكنك أن تكون موظفا "خائنا" لعشرين عاما، تمارس فيها "الحضور السلبي" (Presenteeism) وتكون عبئا على المؤسسة.

الخلاصة، الولاء "نعمة" حين يكون احترافيا، متبادلا، ومبنيا على الثقة والتقدير. وهو "نقمة" حين يصبح أعمى، ومطلقا، ومن طرف واحد، ويتحول إلى غطاء للاستغلال والركود.

الميزان الدقيق يكمن في أن تكون "شريكا" في نجاح عملك، لا "أسيرا" لولائك له.