حديقة العامرات
جدل حديقة العامرات في عمان: "طقوس دخيلة" أم "تنوع ثقافي"؟
- ساحة لجدل رقمي واسع، يدور حول سؤال جوهري
لم تعد حديقة العامرات، الواحة الخضراء التي تجمع بين التراث العماني الأصيل والحداثة في قلب مسقط، مجرد وجهة مفضلة للعائلات؛ بل تحولت خلال الأيام الماضية إلى ساحة لجدل رقمي واسع، يدور حول سؤال جوهري: هل يهدد الانفتاح على الفعاليات الثقافية الدولية الهوية العمانية الراسخة؟
بدأ الجدل عندما استضافت الحديقة مهرجانا شعبيا ضخما للجالية الهندية للاحتفال بـ "عيد الضوء" (ديوالي)، وهو احتفال هندوسي تقليدي. وبينما هدفت الفعالية، التي أقيمت بموافقة رسمية، لتعزيز التنوع الثقافي، فإن مشاهد منها أثارت غضبا واسعا، مبرزة الصراع الدقيق بين الحفاظ على الهوية ومتطلبات الحداثة.
الانفجار الرقمي: مجسم "بقرة مقدسة" وازدحام خانق
تعد الجالية الهندية في عمان الأكبر في السلطنة (أكثر من 800 ألف فرد). جاء المهرجان بدعوة رسمية من حاكم ولاية كيرالا الهندية وبموافقة بلدية مسقط، كجزء من جهود تعزيز التنوع.
لكن ما حدث على الأرض فاق توقعات الكثيرين. شهد يوم الافتتاح اكتظاظا هائلا بالآلاف، معظمهم من الجالية الهندية، مما أدى لإغلاق الشوارع المحيطة لساعات.
وسرعان ما تحول الاستياء من "سوء التنظيم" إلى "غضب ثقافي" بعد انتشار صور وفيديوهات على منصة "إكس" (تويتر سابقا).
أظهرت المواد المتداولة مجسما لـ "بقرة مقدسة" في الثقافة الهندوسية يرفع في عرض راقص، مصحوبا بموسيقى صاخبة وأضواء كثيفة.
هذه المشاهد كانت كافية لإشعال جدل واسع، حيث بلغت التفاعلات على هاشتاغات مثل #حديقة_العامرات و #جدل_الفعاليات_الثقافية أكثر من 50 ألف تغريدة في غضون 48 ساعة.
صراع على "إكس": "طقوس دخيلة" أم "حساسية مفرطة"؟
انقسمت الآراء بشكل حاد.
ففي جبهة الرافضين، عبر مستخدمون عن صدمتهم مما اعتبروه "غزوا ثقافيا".
وكتب المغرد يعرب المنذري: "ما حدث في حديقة العامرات من ممارسات وطقوس دخيلة لا يمثل قيمنا ومعتقداتنا. نحن نرفض رفضا قاطعا أن تقام مثل هذه الطقوس على أرضنا الطاهرة".
وعكست تغريدة أخرى لأم سالم شعورا "بالإقصاء"، قائلة: "حتى من أراد أن يدخل الحديقة مع أطفاله لم يجد مكانا أو لم يشعر بالراحة أن يزاحم بين تلك الحشود والأصوات والرموز التي لا تمت لثقافته ولا لدينه بصلة".
في المقابل، دافع آخرون عن الفعالية باعتبارها تعبيرا طبيعيا عن التنوع والانفتاح الذي يميز عمان.
وكتبت نهى علي: "مستغربة من كمية الحساسية المفرطة تجاه معتقدات الآخرين! ... المهرجان كان متنفس للعوائل الهندية في مسقط. فلماذا كل هذه الحساسية!!".
رمزية المكان: صراع داخل الحديقة نفسها
يكمن عمق الجدل في رمزية "حديقة العامرات" ذاتها. فهي ليست مجرد مساحة خالية، بل هي نموذج للتوازن العماني؛ إذ تضم "قرية تراثية" تعكس الحياة اليومية القديمة، وتعرض حرفا تقليدية وأدوات تاريخية تعود إلى 3000 عام، وبجوارها تقام فعاليات "ليالي مسقط" التي تشمل عروض الواقع المعزز والألعاب الإلكترونية.
هذا المهرجان، برموزه الدينية الواضحة، اعتبره البعض "خللا" في هذا التوازن الدقيق بين التراث والحداثة.
الرد الرسمي: توازن بين "الهوية" و "التنوع"
في مواجهة هذا الغضب، أصدرت بلدية مسقط بيانا رسميا ، حاولت فيه طمأنة جميع الأطراف.
أكدت البلدية أن الفعالية "حصلت على جميع التراخيص اللازمة" كجزء من برنامج "ليالي مسقط 2025" الهادف لتعزيز السياحة.
وشدد البيان على "الالتزام الكامل بالحفاظ على الهوية العمانية والقيم الإسلامية"، مع "الترحيب بالتنوع الثقافي للجاليات المقيمة"، شريطة الالتزام بالنظام العام. واعترفت البلدية ضمنا بالمشاكل التنظيمية، مؤكدة أنها "ستراجع آليات التنظيم لتجنب أي إحساس بالإقصاء"، وأن فعاليات تراثية عمانية محلية ستقام قريبا لتحقيق التوازن.
من جانبها، دعمت وزارة التراث والسياحة الفعالية من منظور اقتصادي، مشيرة إلى أن "ليالي مسقط" تساهم في نمو الناتج المحلي بنسبة تصل إلى 5% سنويا، وزيادة عدد الزوار بنسبة 20% سنويا.
بدوره، نشر الحساب الرسمي لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، المفتي العام لسلطنة عمان، منشورا على منصة "إكس"، جاء فيه: إن التسامح يجب ألا يخدش أي قيمة من قيم الدين الحنيف فضلا عن كونه تحطيما لقيم الدين كلها، ونحن هنا في سلطنة عمان في قطر إسلامي عريق وهو جزء من جزيرة العرب التي جعلها الله تعالى حرما للإسلام، لأنها قاعدته التي انطلق منها إلى الآفاق، وعليه: فإن علينا أن نرعى هذه الحرمات وألا نسمح بأي شيء يمس ثوابت الدين فضلا عن كونه يزعزع عقيدة الإسلام من أساسها، ويغرس مبادئ الشرك بالله تعالى.
واستنكر مفتي السلطنة بشدة ما حدث بحديقة العامرات من حفل مهرجاني صاخب فيه تقديس للمعبودات التي تعظم من دون الله تعالى".
تحدي "رؤية 2040": هل تهدد الحداثة التراث؟
يأتي الجدل في سياق "رؤية عمان 2040" التي تركز على التنمية المستدامة والسياحة الثقافية. ويرى الخبراء أن هذه الحادثة هي اختبار حقيقي لهذه الرؤية.
الدكتور علي الرحبي، أستاذ التراث العماني بجامعة السلطان قابوس، يرى أن "الفعاليات الثقافية لا تهدد الهوية إذا تم تنظيمها بتوازن"، معتبرا أن وجود القرية التراثية دليل على "قدرتنا على الحفاظ على الجذور أثناء الازدهار".
بينما تحذر الدكتورة فاطمة الشبلي، خبيرة الدراسات الثقافية، من أن "الازدحام والرموز الدينية في المساحات العامة قد يؤدي إلى شعور بالاغتراب لدى السكان المحليين"، داعية إلى "إعادة صياغة السياسات لتعزيز الفعاليات المحلية".
في النهاية، يبدو أن جدل حديقة العامرات ليس مجرد خلاف حول مهرجان، بل هو انعكاس لتحدي العولمة الأكبر: كيف يمكن للمجتمعات ذات الإرث العميق أن تنفتح اقتصاديا وثقافيا دون أن تفقد هويتها؟ الإجابة، كما يبدو، تكمن في "الإدارة الحكيمة" للتوازن، وهو ما ستظهره الأيام القادمة مع استمرار فعاليات "ليالي مسقط" حتى فبراير 2026.



